الصورة الجنائزية: استتيقا الموت – عزالدين بوركة

عزالدين بوركة

(شاعر وباحث جمالي مغربي)

لمْ تعد الصورة أداةَ خلق الحياة من لحظة مقتنصة في الماضي، بل صارت –أيضاً- أداة خلق الموت من الحياة و الموت عينه. في الوقت الذي لم يتطرق فيه إلا القلة من الكتاب العرب إلى موضوع الصورة باعتبارها مفهوماً جمالياً، فقد ظلت مغيبة في الثقافة العربية، في حضور الشفوي والمسموع والمقروء (اقرأ باسم ربك). ولم يُنظر إليها إلا باعتبارها الأداة الأكثر سيطرة على النفوس والعقول. فتمت مهاجمتها، من منظور إيتيقي (أخلاقي). ليتمّ تغييبها في الثقافة العربية، واقتصار على الخوف منها والرعب من التأثير الذي تقوم به علينا. غافلين عما تملكه من جلب لمعان مغايرة ومتجددة. فيصير التعامل مع الصورة عربياً، أمراً متداعياً متذبذباً ومتردداً، مقتصراً على الجانب الأخلاقي، الذي ظلت سجينته…

من هذا المنطلق باتت تلعب اليوم الصور عبر التلفاز والانترنيت سنداً قوياً ” للإرهابي” لتمرير” صور الموت”، عبر شكل جمالي مُبهِر، مستعملاً في ذلك أدوات ومؤثرات بصرية عالية الجودة، تُبهر وتُفْتِن الناظرين وتخدعهم. الافتتان هنا كما يقول ج. كوهن في مؤلفه (الحركة على الإنسان l’action sur l’homme)، هو “قوة الإعلام المرئي، نظراً لوجود الأشخاص المجردين إزاءه من وسائل التبعيد ومن استدراك النظر”. والخداع هنا “هو فقدان المتفرجين لاستقلالهم الذاتي الفكري، وذلك في استسلامهم طوعا أو كرها إلى دينامية الصور الفيلمية، في حالة لا يشارك فيها الفكر”[1]. فقد بات الإرهابي مستوعباً لكل هذا الأمر، ولم يعد هذا “الكائن اللا إنساني”، نفسه ذاك “الإنسان” القادم من الصحراء وتلابيبها أو  هو ذاك الذي يُحيا في الماضي حاضراً، بل أضحى يجـيء من مدارس وجامعات ومؤسسات “الدول المتقدمة”، متشبعاً بـ”الصورة” وثقافتها.. فالأمر يرجع بقوة كبيرة، ولا شك في ذلك، إلى فاعلية الصورة العابرة للقارات (ما تقوم به داعش أنموذجاً)، صورة تستعين بالتواصل العَوْلَماتي، لبلوغها إلى الهدف/الضحية (الأضحية). فقد بات اليوم -مع تطور وسائل الاتصال- من الصعب التحكم في انتقال الصورة، إذْ لم يعد هناك “الأنا” المركزية المتحكمة في التواصل، بل لقد صار “كل عِلم الاتصال يفترض مركزية (الأنا) وتَحَكُمه في ذاته بذاته”[2]. مما صار معه صعباً حصر التنقل المعلوماتي والسيطرة عليه، ما أتاح للإرهابي فرصاً سانحة للتوسع وبلوغ مستَهْدَفين جدد…

لقد تجاوزت الصورة إذن مسألة العنف، والتحريض على فعل جرائم، أو الانتساب إلى تيارات العنف، أو التأثير النفسي على الأطفال من خلال ألعاب الفيديو وغيرها ما يولد “صيرورة عنيف” أي مجموعة من الانفعالات النفسية العنيفة تجاه العالم الخارجي وخاصة عند الأطفال. فقد انتقلت الصورة إلى الشكل الأسمى والأقصى من العنف، إلى أبعد أطرافه، وصارت أداة من أدوات “الإرهابـ(ـي)”. الذي يؤمن بأن لا الخلاص له إلا في الموت. موت الضحية وموت الجاني !.

بثّت مجموعة من القنوات، وخاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي الحديثة على الانترنيت، ومجموعة من المواقع الإلكترونية، صور القتل التي يصنعها “الإرهابي” المنضوي اليوم تحت لواء “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، حيث يحضر فعل القتل (الموت) عبر أبشع حالاته داخل إطار cadre تصويري جمالي، خصصت له أحدث التقنيات، من آلات التصوير إلى المؤثرات البصرية والصوتية. ما يجعل المشاهد مندرجاً داخل دائرة الدراما التي تخلق تعاطفاً -من لدن المتلقي- حتى مع الجاني، وتجعل منه بطلاً: إنها استتيقا (جماليات) الموت.

لقد تجرأ جون بودريار على التعبير عن جماليات تدمير برجي مدينة مانهاتن Manhattan، الأمر الذي نشر على أنه هول مجزرة إنسانية. “إنني، يقول إدغار موران E. Morin، أخفيت استتيقا (جمالية) هذه الصورة غير المصدقة، التي رأيناها وأعدنا رؤيتها بهوس على الشاشات، لقد أخفيتها في الشعور الإيتيقي (الأخلاقي)، لكن إنه لأمر حقيقي، وجود استتيقا الكارثة في عرض spectacle هذين البرجين الضخمين المفجرين، كأنه حلم، من قبل طائرتين ظهرتا فجأة من لا مكان، من ثم استولت عليهما ألسنة اللهب لتنصهرا. تستعمل السينما و تخدع بجماليات الكارثة، لكن في خيال يصير واقعياً، وليس في الواقع réel مثلما وقع في الحادي عشر من شتنبر 2011”[3]. فيغدو -بالتالي- البَشِع (القتل) جميلاً.

يخلق الإرهابي تراجيديا يختلط فيها الرعب والشفقة. إلا أنه ينتج صوراً تُعربُنا وتجعلنا نشفق على الجاني قبل الضحية أحياناً.

لقد ظلت الجماليات -على مر العصور- ترى على أن الفن هو الذي يحوّل الألم والموت إلى سعادة. أما حديثا فأفلام العنف، “تشعرنا في الآن نفسه بالشر والخير. الخير مغلفا والشر أليفاً”[4].  فإن كانت الحرب تجعلنا نصيح “يا إلهي ! كم هي الحرب جميلة”، فالصور التي بثـها الإرهابي تجعلنا نصيح “يا إلهي ! كم هو الموت جميل”. لقد تخطت صناعة الموت الحدود الاستتيقية ولم يعد المشاهد يضع مسافة بينه وبين ما يراه. ولم يعد بمقدوره أن يتخيل أن ذلك الفعل (القتل) مجرد تمثيل (تشخيص)، لكي لا يُفزع ولا ينهض من نومه ليلاً، بل صار يرى القتل (الموت) كفعل حقيقي من قبل أشخاص حقيقيين في حق آخرين حقيقيين عبر تقنيات السينمائي الماهر. عكس “السينما التي، مثلها مثل التراجيديا الإغريقية أو الدراما الإليزابيتية élisabéthain أو الأدب، جعلوا من الرعب جمالياً، رعب يفزعنا لك الوعي بكوننا متفرجين يجعل التعذيب أو الموت غير عنيف “[5].

“إن الموت، هو أولا وقبل كل شيء، صورة، وسيظل كذلك صورة”، يقول غاستون باشلار. وبعدما كانت “الصورة انتصار الحياة… انتصار منتزع من الموت ومستحق منه”[6]، فقد باتت صناعة انتصارا للموت انتصار منتزع من الحياة، فالإرهابي ينتزع حياة الآخر وضعه داخل فيلم مصور بالألوان وعالي الدقة، فلم يعد يستعين بتقنيات بالية وغير واضحة لإظهار قوته وعتاده، وتسلح واستعداد أتباعهم، بل إنه يُمسرح الموت يجعله جزءاً من مشهد سينمائي. إنه يجعل الموت فنا. ويجعل الفن تعبيرا عن الموت. إنه يعيد المشهد إلى الخلف من حيث “وُلد الفن.. من رحم الموت”. على عتبات المذابح والأضرحة والقبور.

إننا لسنا أمام مشهد من التمثيل حيث يقوم مجموعة الأشخاص بتشخيص عرض مكتوب ومُؤلَّف. بل إننا نعيد إحياء معنى “التشخيص والتمثيل”، في اللغة الشعائرية، من حيث هو “تابوت فارغ يغطَّى بكفن لحظة الجنازة”[7]. فقد أعاد الإرهابي للتمثيل، وتخصيص طابعه القدسي والجنائزي، فيصير أمر “التمثيل” جليلاً، ولا يؤتى لأي كان، فهو يحتاج لطهارة وإيمان قوي، ويحتاج لبراءة طفل، ونقائه وصفائه من الشوائب والذنوب، فنجد مجموعة من الفيديوهات تظهر أطفالاً يقدمون على عملية الذبح والقتل وتفجير الضحية. إنها “استتيقا الترهيب” كما يصفها بوريس غرويس Boris Groys، استتيقا تنتج العظيم السالب، العدمي، “العظيم (البهي  Sublime)”، كما كتب أرنولد بيرليان Arnold Berlean، بأن “الإرهابي بجميع صوره يعتبر اليوم المبدأ المؤسس للعظيم (للبهي)”.

إنها استتيقا تتفنن في إبداع ما يغيظ النفس ويدميـها ويكدرها، ويؤجج فيها سورة الغل والغضب. استتيقا قوامها الشر المطلق، والقبح المطلق، والدمار المطلق. إنها تشرعن اللاَّ مشروع، وتعقلن اللاَّمعقول، وتؤبد الموت وتجعل منه الغاية القصوى[8]. فالإرهابي (الجهادي) يبحث عن الاستشهاد، إنه منتصر، سواء قتل أو قُتِل. إنه “ينتحر بجمال”، ويجعل من موته عملاً فنياً، إنه يصنع “استتيقا التدمير”. ويقدم نفسه قرباناً، في حلة جمالية، إن لم نقل وحشية. قرباناً للرب، يعيد الأذهان هنا لتلك الميثولوجيات القديمة التي تتحدث عن شعوب كانت تقدم أجسادها قرباناً للإله، إلا إننا لم نعد نتحدث عن مذبح واحد، حيث يقدم الكل قرابينه، بل إن العالم ككل صار مذبحاً، فالإرهابي يضرب في كل مكان، فتمتزج الضحية بالأضحية والمذبح.

إن جماليات الموت عند الإرهابي، تخرق الفكر الكانطي حول “الجمال”، وتدعونا إلى إعادة النظر في تلك الفكرة القائمة على إنكار أن الجمال قائم على أشكال الفهم العقلي والسلوك الأخلاقي. مع سطوة الإرهابي اليوم على الصورة لم يعد الجمال هو “ذلك الذي يُمتِع”. إنه “يُرهِب” و”يُفزِع”، ولم يعد شيئاً “مشتركاً بين الناس دون وجود حاجة إلى مفهوم عقلي محدّد خاص حوله”. ففي الوقت الذي الغرض من الفن حسب التحديد الكانطي، ورؤية ليوتار له، هو الإمساك بما لم يقل، والعبور من المرئي إلى “فينومينولوجيا المدرك الحسي، شطر اللا مرئي والجواني والمحايث”. فإن الذهنية الإرهابية هي ذهنية الخلخلة والتدمير، فالحياة لا تعني سوى مرحلة عبور، وابتلاء (مصائب وعاهات وأمراض وحرمان…)، والغرض منه هو الترهيب والتعذيب “تنفيذ وعيد الرب في الأرض”. وما التوظيف الاستتيقي للموت من قبله إلا القبض على ذهنية الآخر وخلخلتها.

ليس المشكل في الرب، إذ هو مفهوم جمالي وتمثل إنساني خلاّق، لقد اعتبرت جل المثولوجيات القديمة الرب في شكل استيتيقي (رب الموسيقى ورب النحت وربة الجمال…) حتى إنها صنعت له تماثيلاً “عظيمة ومبهرة وبهية”. المشكل يقع في الذهنية الإرهابية المتشبعة بدعوات التدمير والتخريب التي توحد الإله في تصور قاس وجبار وقهار… فيحولون العالم إلى “فوضى قبيحة” وبشعة.

[1] G. Cohen-Seat et P. Fougeyrollas, L’action sur L’homme, Cinéma et T.V. Paris, éd. de Noël, 1961, p 47.

[2]جون ماري بيام، التلفزيون كما نتحدث عنه، ترجمة نصر الدين لعياضي، دار عيون، ط 1، 1993، ص 96.

[3] Edgar Morin, sur L’esthétique, éd. Robert Laffont, Paris, 2016, p 27.

[4] Ibid, p 26.

[5] Ibid, p 27.

[6]ر. دوربي، حياة الصورة وموتها، ص 18.

[7] المرجع السابق، نفس الصفحة.

[8] محمد الشيكر، الإرهاب وسؤال الإستتيقا، مجلة الموجة الثقافية، العدد السادس، 2016، ص 33.

التعليقات مغلقة.