التراث بين الحداثة والإيروتيكا في أعمال فريد بلكاهية – عزالدين بوركة
عزالدين بوركة
(شاعر وباحث جمالي مغربي)
ستظهر بوادر النبوغ الفني لدى فريد بلكاهية (مراكش 1934-2014) في سن مبكر، إذ في سنه السادس عشر سيلاحظ أحد أصدقاء أبيه ميول هذا الفتى إلى الفن وقدراته الفنية، وذلك عندما صادف أولى أعماله التي كانت تميل إلى التشخيصية. فبحكم ارتباط والده بمجموعة من الفنانين الأجانب المقيمين بمراكش وضواحيها، كان فريد بلكاهية الصبي يستلهم أدبياتهم الفنية ويتشبع برسوماته وأحاديثهم. سيُرسل الأب بلكاهية ابنه إلى فرنسا وبالتحديد باريس حيث سيقيم، ليدرس الفنون الجميلة بالمدرسة العليا بباريس، سنة 1954. ومنها سيتجه صوب براغ، حيث سيكمل دراسته السينوغرافية بمعهد المسرح سنة 1959.
ثلاث سنوات بعد ذلك سيعود بلكاهية الفنان إلى الدار البيضاء، ليصير مديراً لمدرستها العليا للفنون الجميلة، حيث سيقضي فيها 12 سنة تسييراً وفناً. هناك حيث سيلتقي بأصدقاء فنانين ومجموعة من المثقافين، ما سيجعله أكثر التزاماً بالقضايا الفنية وخاصة بتلك التي نظّر إليها إلى جانب آخرين ضمن “جماعة 65”.
سيشكِّل المعرض الذي أقامه سنة 1969 بساحة جامع الفنا بمدينة مراكش، محاولة واضحة للخروج بالفن التشكيلي والفنان في الوقت نفسه من الورشات والمعارض إلى الشارع، من النخبوي إلى الشعبي، تجسيداً للرؤية التي جاء مؤمناً بها ضمن مدرسة الدار البيضاء.
وستتجسد تلك الرؤية الفنية تجاه التراث أكثر، وبالتحديد سنة 1964، حيث سيتخلى على القماشة ليشتغل على أساندة جديدة من خشب وجلد ونحاس… وأدوات متنوعة وأصباغ مخالفة، من حرق وحناء وفحم وتراب وأصباغ طبيعية pigments naturels… هذا التخلي على الفرشاة والصباغة الاصطناعية، سيجعل الفنان يوظف يده بالشكل المباشر على السند من تطويع وتشكيل وتلوين وحفر ونجر.
ذهب فريد بالكاهية بالنحاس إلى أبعاد جمالية جديدة ومتنوعة، من حيث اللعب على التحدي اللوني الأحادي الذي يقدمه النحاس، وسمكه الذي يسمح بصنع تلك النتوءات التي تقدم للعمل بعدا ثلاثيا. فللنحاس قدسيته وطابعه الميثولوجي، فهو مرتبط بإزالة العين، ومحاربة النحس والحسد، وطرد الشر، إذ منه تصنع تلك “الخْميسات” و”الحدوات” (نعال الخيل) التي تعلق على الجدران والأبواب والأعناق لطرد أي سوء. إلى جانب بعده الشعبي والميثولوجي، فالنحاس معدن صلب وسهل التطويع، ما يقدم للفنان إمكانيات عدة يستند عليها لتشكيل أعماله الفنية.
كانت أولى أعماله النحاسية تعتمد على النحاس الأسمر الغامق، الذي يوظفه إلى جانب الألمنيوم، لما لهذا الأخير أكثر قدرة على القولبةmoulage . ما جعل الأعمال أكثر ثقلا وسمكا. مع مرور الوقت والتمكن من تطويع المادة، صارت الأعمال أكثر خفة وأكثر ليونة وسهولة الحمل والتوضيب، وناحت نحو التعبير الجسدي الضمني والتعبير الإيروتيكي، منه نحو التجريدي. فكان جسد المرأة هو عنوان هذه الأعمال بشكل أكبر.
فقد جعل فريد بلكاهية أعماله تكريما للمرأة، فعمد إلى وضع الجسد الأنثوي داخل صياغات مبهمة يلزم فك شفرتها أو جعل الجسد يحضر في مصفوفات مجازية، فـ “قدَّم الجسد، رمزياً ورامزاً، ضمن تصويرية متقدمة من الوجهة التقنية ذات أمداء تعبيرية متصلة بكشف أعضاء الجسد.. جسد المرأة في الغالب الذي يُصَوِّره الفنان ويُؤَسِّرُهُ وفق تكوينات تشكيلية يلتحم فيها الجلد والخشب والنحاس لتبدو مليئة بالرموز الإيروسية، وفيها ينصهر الموضوع (الجسد الأنثوي) مع الخلفية Fond، وتذوب الملامح مع بعضها البعض.. لا شيء يكشف عن هويتها غير الانحناءات والخطوط المتموِّجة التي اشتهر بلكاهية بتوقيعها على قماشاته، لاسيما منها المتضمِّنة أجساداً ليِّنة مندمجة داخل مساحات حرَّة، أو المشتملة على أطياف بشرية ترسم المجاز البلاغي للجسد في حدود عريه وفطريته، بمعنى من المعاني..”[i].
فقد سعى فريد بلكاهية رفقة فنانين آخرين إلى اقتراف الترميز والإشارة، عبر طمس معالم الجسد وترك للمتلقي شساعة التأويل، فهذا الفنان يجعل من الإيحاء عبر تلك التركيبات والإنشاءات الجلدية والنحاسية وسيلته للتعبير عن قدسية الجسد، عبر تجريده من المعالم وإدخاله مدخل الأسطورة، ما يجعل المشاهد يدخل في محاولة الكشف والتشفير، من حيث كون الأسطورة “منظومة دينامية من الرموز والنماذج البدائية والأنساق، منظومة بدئية تنحو -تحت ضغط نسق معين- إلى التشكُل ضمن قصة. الأسطورة هي في البداية ترسيم موقفٍ عقلاني، لكونها تستخدم تسلسل الخطاب، الذي تتحول في الرموز إلى كلمات والنماذج إلى أفكار، فالأسطورة هي عملية إيغال في نسق أو مجموعة أنساق. وكما أن النموذج البدئي يكمن خلف الفكرة، وكما أن الرمز يولّد الاسم، يمكننا القول أنّ الأسطورة ترفد القصة التاريخية أو الخرافية”[ii]. عمد فريد بلكاهية إلى خلق هذا البعض الأسطوري عبر توظيف أنواع من الرموز والعلامات مستعينا بالأصباغ النسائية كالحناء والكحل (أو الإِثْمِد: حجر يطحن ليستخدم مسحوقه لتكحيل العيون ويستخدم غالباً كمادة للتجميل للنساء)… فهذا الفنان يميل إلى زخرفة الجسد الأنثوي وتمويهه داخل اشتغالات مجردة ومشفرة.
زخرفة تعتمد على طمس الأعضاء التناسلية ضمن رؤية فنية إشارية، لا تبتغي المباشرة والقول الصريح والفضاح. إذ تحضر الأنثى في تمثلات إيروسية، من حيث أن الجسد الأنثوي ظل عصيا عن المطاوعة، ورديف الشبقي والرغبة والخلود. فما يجعل أعمال فريد بلكاهية إيروتيكية في كونها تتخذ من الجانب الإيروسي éros (الشبقي) في تشكيل الجانب الشهواني (الصدر، الثدي، الفرج، القضيب…)، فقد ارتبط الإيروس (ومن انبثقت كلمة إروتيك) بالرغبة الجامحة والجسد والانتشاء والنشوة المتولدة عن العلاقة الحميمية والجنون الطائش. إلا أنه بقدر ما تضع الأسطورة قصصها ضمن قوالب من الترميز والغموض، ففريد بلكاهية يصنع أعماله الفنية عبر ترميز وتداخل بين الأشكال وعدم المباشرة والكشف السهل.
لقد ارتبط الشبقي (الإروتيكي) بالأسطورة والميثولوجيات، إلى حد اعتبار من قبل مجموعة من الديانات جزء لا يتجزأ من معتقداتها، مثل مجموعة من الديانات الهندية وما ارتبط بها من مؤلفات مثل “الكماسوترا”… في القوت الذي جعلت ديانات التوحيد من الجسد محظورا وحرما النظر إليها، إلا بشروط تكاد تكون صارمة. من هذا المنطلق تكاد أعمال فريد بلكاهية تتخذ أصلها وجذورها، إذ هي أعمال إيروتيكية ذات ملمح من الترميز والغموض، ما يحتاج معه المتلقي نوعا من الخوض في أعماق غري المكشوف عنه والمستور، إذ الجسد في الثقافة المشرقية ظل رهين الستر والغطاء ما يجعله أكثر شهوانية وأكثر رغبة فيه، فالغامض أكثر جذبا من البارز والمألوف.
فريد بلكاهية المنتمي إلى جماعة 65 وأحد ركائزها، استطاع أن يضع على أرض الواقع التمثل الفني النظري الذي جاءت به هذه “الحركة”، إذ استدرج إلى اعماله الجلد وظف فوقه عبر الأصباغ الطبيعية من حناء وغيرها، تلك الرموز signes الأمازيغية، ذات طابع تجريدي مفعم بالحركة. فنقل تلك الرموز من على تجاعيد النساء القرويات إلى الأسندة الطبيعية التي اشتغل عليها، نقل يجسد ذلك الاستدراج للتراث ضمن الفعل الحداثي الفني والمعاصر.
كانت سنة 1974 اللحظة الفارقة في تاريخ فريد بلكاهية وفي تاريخ “جماعة 65″، إذ سيغادر إدارة مدرسة الدار البيضاء للفنون الجميلة، ومنها للانكباب على أعماله وهمه الفني، ما وضع الجماعة في تخبطات ونوع من التشتت نتيجة تفرغ كل من أعضائها لمشاغلهم الفنية والذاتية، بالإضافة لما ستعرفه المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء بعد رحيل من تذبذب وغياب رؤية فنية محددة، بل مازالت تعيش على ظل تلك المرحلة.
سيرحل عن العالم جسد فريد بلكاهية سنة 2014، ليترك روحه متناثرة بين كل أعماله، وعبر تلك اللمسات والرتوشات والنتوءات والحفر والنجر والحرق التي أنجزتها يداه، سواء بالفرشاة أو دونها.
[i] جريدة المساء، يوم 01 – 10- 2014.
[ii] جيلبير دوران، الأنثروبولوجيا، رموزها، أساطيرها، أنساقها، ترجمة مصباح الصمد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1993، ص 37.
التعليقات مغلقة.